تُظهر قراءة نيكولاي كوجانوف لمسار السياسة الروسية أن موسكو، رغم إنهاكها العسكري والاقتصادي بفعل حرب أوكرانيا، تواصل إعادة إنتاج نفوذها في الشرق الأوسط بطرق مرنة وعملية تسمح لها بالبقاء لاعبًا مُزعجًا للولايات المتحدة وأوروبا، حتى بعد فقدانها مركز قوتها الرئيسي في سوريا.
يعرض تحليل المؤسسة البريطانية كيف تستغل روسيا هشاشة النظام الإقليمي، وتستخدم التوازنات المتحركة لخلق مساحات تأثير جديدة تُعوّض بها خسائرها الاستراتيجية خارج المنطقة. وتؤكد الورقة البحثية أن التقليل من وزن روسيا في الشرق الأوسط يخلق قراءة مضللة؛ لأنها، رغم ضعفها النسبي، ما زالت قادرة على تشكيل المعادلات من بعيد وبكلفة منخفضة.
استراتيجية مرنة بعد 2022
يتناول التحليل كيفية انتقال روسيا لنمط عمل أكثر انخفاضًا في التكلفة بعد 2022، معتمدة على الدبلوماسية الانتقائية بدل الانخراط العسكري الواسع. ويرى كوجانوف أن موسكو تجيد استخدام اللحظات التي يغفل عنها العالم، مثل المنتدى السعودي–الروسي الأخير في ديسمبر، والذي أخرج اتفاقًا شاملًا للإعفاء المتبادل من التأشيرات، وهو نوع من المعاهدات النادرة بالنسبة للرياض.
يعكس هذا الاتفاق بوضوح أن روسيا، رغم ضوضاء الحديث عن تراجعها، ما زالت تحظى باعتراف السياسيين في الخليج، وتحتفظ بقنوات اقتصادية قوية داخل المنطقة. ويطرح التحليل سؤالًا محوريًا: هل تحتاج موسكو للظهور في كل قمة حتى تُثبت وجودها؟ أم أن العمل في الظل يمنحها نفوذًا أهدأ وأكثر فاعلية؟
تشير الورقة البحثية إلى أن موسكو تُفضّل دومًا الإشارات رخيصة التكلفة على الالتزامات الثقيلة. لذلك استخدمت تصريحاتها حول غزة لتأكيد حضورها، بينما تجنّبت الاشتراك الفعلي في مبادرة السلام في شرم الشيخ لأنها تتطلب مسؤوليات سياسية ومخاطر عالية.
«العمل بأقل الموارد»: القاعدة الروسية الجديدة
يرصد الكاتب كيف تبني روسيا نفوذها عبر أدوات محدودة، منها العلاقات الدبلوماسية المتوازنة، والحوار المفتوح مع الجميع — إيران وإسرائيل، تركيا والخليج، مصر، وأطراف الصراع في سوريا وليبيا.
ويشرح التحليل أن تكتيك موسكو ليس حل النزاعات، بل ضمان مقعد دائم على الطاولة. لذلك تلجأ للقفز بين المعسكرات، وتتحرك بمرونة تمنع أي طرف من تجاوزها. ويشير كوجانوف إلى مثال واضح: عندما تدهورت العلاقات الإيرانية–الإسرائيلية بعد سقوط الأسد، تجنّب الكرملين التصادم المباشر مع إسرائيل، مع الحفاظ على مستوى دائم من التنسيق مع طهران.
يعرض التحليل أيضًا كيف تحافظ روسيا على قدرة «التشويش» السياسي حتى بعد خسارتها سوريا كقاعدة مركزية. فوجودها المحدود هناك ما زال يسمح لها بالتأثير على الحسابات الإسرائيلية، وبموازنة القوى في الساحة السورية، وبمنع دخول لاعبين أكثر فوضوية على الخط.
ويرى الكاتب أن إيران، رغم استيائها من تحفظ روسيا خلال المواجهة مع إسرائيل في يونيو، مضطرة للإبقاء على موسكو كشريك استراتيجي، خاصة مع استمرار صراعها المفتوح مع الغرب.
نفوذ بلا جيوش كبيرة
يحلل النص قدرة روسيا على ممارسة نفوذ واسع دون انتشار عسكري كبير، مستفيدة من نقاط ارتكازها في ليبيا وسوريا لضخ موارد بشرية وتسليحية في صراعات أفريقية وشرق أوسطية، كلما احتاجت لتعزيز معسكرات معادية للغرب أو خلق ضغوط سياسية إضافية.
ويركز التحليل على الأدوات الاقتصادية باعتبارها أخطر أسلحة موسكو: التنسيق مع أوبك+ لتنظيم إنتاج النفط، توسيع دورها في مشاريع الغذاء والطاقة النووية في المنطقة، وإعادة توجيه تجارتها إلى الخليج لتفادي العقوبات.
وتكشف الورقة أن الإمارات والسعودية تحولت إلى بوابتين رئيسيتين للتجارة الروسية، سواء لتصريف منتجاتها أو لاستقبال استثمارات خليجية تُنعش اقتصادها في لحظة عزلة دولية. ويُبرز الكاتب أن التجارة الإماراتية–الروسية تضاعفت بأكثر من الضعف خلال خمس سنوات، وهو ما وفر متنفسًا سياسيًا واقتصاديًا هائلًا للكرملين.
استغلال الانقسامات الإقليمية
ينتهي التحليل إلى أن قدرة روسيا على البقاء لاعبًا مؤثرًا تتغذى على الانقسامات المتزايدة داخل الشرق الأوسط وبين ضفتي الأطلسي. فالولايات المتحدة وأوروبا تختلفان حول ملفات المنطقة، والدول العربية نفسها تتحرك بسياسات «متعددة الاتجاهات» لا تعتمد على تحالف واحد.
تغتنم موسكو هذه المساحات الرمادية — خاصة في الخليج — حيث تواصل الدول العربية تعميق تعاونها الاقتصادي معها بينما تتجنب الانضمام للعقوبات الغربية.
يؤكد كوجانوف أن هذا النهج يمنح روسيا متنفسًا استراتيجيًا ويحوّلها، رغم ضعفها، إلى لاعب لا يمكن تجاوزه، لأن قدرتها على «المشاغبة المحسوبة» تجعلها جزءًا ثابتًا من معادلة الشرق الأوسط.
https://www.chathamhouse.org/2025/12/russia-weakened-its-influence-middle-east-should-not-be-underestimated

